#مجزرة_الحولة

بعد العشاء وقبل أن أصبح يتيمة

أنا أسمي وردة محمد الحداد. أعيش في مدينة الحولة. سأقول لكم ما حصل لي ولعائلتي، بعد أن أحتفلت مع عائلتي بمناسبة مولدي ولأتمامي عامي الثامن أقام أهلي حفلة بسيطة وتناولنا فيها قطعة من الحلوى اللذيذة؛ رقصت بعد العشاء مع جدي وجدتي رغم أن الأوضاع لا تسمح بالأحتفال ألا أننا أحتفالنا بسرعة، بينما كانت أختي سهام تذاكر دروسها في الطابق العلوي، دخل أخي كريم وبيدهِ أعلامٌ لسوريا ولافتاتٌ . وكالعادة يستقبلانهِ والداي بالأحضان ثم بالسب واللعن وأحياناً الضرب لتحذيرهم له أكثر من مرة بعدم الخروج ليلاً بسبب الأوضاع.. وكعادة أخي فر منهم و أتجه مسرعاً إلى غرفتهِ.. أنتهى الجميع من تناول العشاء في صمت دون أن يبتسم أحد.. وصعدت على ظهر جدي الذي أوصلني إلى فراشي وتمنى لي نوماً هنيئاً ثم طبع على خدي قبلة دافئة.. وتأكد من تغطيتي بشكل جيد.. وأغلق أنوار الغرفة ثم هم بأغلاق الباب.. فقالت لهُ أختي سهام:” وأنا مالي بوسة  يا جدو”.. ضحك جدي ثم تقدم نحوها وقبلها خدها بحرارة.. وخرج تاركاً أختي تكمل مذاكرتها.

وبعد منتصف الليل أي قرابة الساعة الواحدة ليلاً.. أستيقظتُ بين يدي والدتي وهي تصرخ على أبي وتقول له:“روح لغرفة كريم وصحيه من النوم بسرعة أبل ما يقصفوه”.. نزلت أمي بي وإذا بجدي يقطر دماً من رأسهِ وجدتي تبكي وتلعن.. وضعتني أمي ثم قالت لي“وردة خليك هون ما تتحركي ماشي ماما .. خليكي مع جدو وتيتا “ ثم صعدت مرة أخرى.. ألتفت على جدي ثم سألتهُ:” جدو مين اللي ضربك؟ فقال لي:“ما حدا ضربني” فقلت لهُ:” بيوجعك شي جدو؟” فقال:” لا ياحبيبتي مافي شي أطمني” ثم مد يدهُ اليمنى وأمسك بيدي.. ونزل أبي وأخي كريم من الدرج وهم يركضون.. ثم نزلت أمي وأختي سهام خلفهما.. جلسنا بالقرب من بعض بين بكاء أمي وأختي وبين دعاء جدتي وأبي.. أما أخي كريم فلم يستطع البكاء ولم يحملهُ لسانهُ على الدعاء فعاد إلى غرفتهِ ثم نزل وبيدهِ سلاح.. رأتهُ أمي ثم قامت بسرعة وقالت“كريم أوعي تطلع بره..والله بزعل منك.. لك ما عم تسمع صوت الرصاص برات البيت؟”لم يستمع كريم إلى أي حرف من حروف أمي ثم توجه إلى الباب فلحق بهِ أبي وقال لهُ:“لك منشان الله لا تطلع برات البيت الليلة بس.. وبكرة أعمل ألي بدك اياه.. طيب مشان أمك.. والله أزا طلعت من البيت هلئ ما بعرف شو بدو يصير فيها” فلتفت أخي كريم وعيناه تدمع وأبتسامتهُ ترتجف وقال لأبي:”يا بي ما بيصير هيك.. شو بدك نضل أعدين بالبيت متل النسوان” وما أن فتح الباب حتى أخترق رأس أخي رصاصة من أحد القناصين.. وما أن سمعت أمي صوت الرصاص القريب حتى أحست.. وأتجهت إلى الباب بسرعة كادت تسقط على الأرض منها.. فشاهدت أبي يحتمي خلف الباب ورأس أخي كريم بجانبهِ ويخرج من جبهتهِ الكثير من الدماء.. فصرخت أمي صرخة سقطت منها دموعي دون علمٍ  بي:” كريم.. يبعتلي حمى.. أبني مات”.. وقامت أمي بمحاولة سحب أخي المصاب إلى داخل البيت وأغلاق الباب  بينما أبي يصرخ“كرررريم” وتساندهُ في الصراخ أمي.. وقبل أن تستطيع أمي من سحب أخي إلى داخل البيت تلقت رصاصة من القناص ذاتهِ أصابتها فوق ركبتها اليمنى وسقطت تاركةً جسد كريم يسقط قبلها إلى الارض.. وما أن أحس أبي بأن القناص لم يكتفي بذلك حتى أغلق الباب.. ولكن جسد أخي كريم كان العائق الوحيد.. فلم يستطع أبي أن يغلق الباب ولم يكتفى القناص من أطلاق الرصاص.. فأصبح ينهال على جسد كريم النحيل.. وأصبح كريم يتلقى الرصاص بكل أستسلامٍ وعجز.. وأخذت أمي تصرخ“مات الله يلعنك مات خلص”ودون أن يعلم كلاً من أبي وأمي أتى رجلٌ وقام بسحبهِ خارج البيت.. ولانزال نحن لا نعلم من هو هذا الرجل ولماذا قام بذلك أهو رحمةً بنا.. أم أنهم لم يشفوا غليل القناص فقدموا جثة أخي كهدية له!.. عاد أبي يحمل بين ذراعيهِ أمي التي أختلط لون فستانها بالدم.. وما أن أجتمعنا حولها حتى سمعنا صوت بيت جارنا أحمد يُهدم.. ونحن لا نعلم أن كان أحدٌ بالبيت وأن كانت صدقتي ليلى معهم أم أنها تحت الأنقاض الآن!.. أجتمعنا غير مبالين بالرصاص وبالهدم ندعوا الله أن يكف عنا هذا الحصار .. وبينما كانت أختي سهام تسأل أبي:” بابا أخي كريم وينو ؟ .. كريم مات”.. وبينما كانت جدتي تحاول أسعاف أمي.. طار باب بيتنا وأصطدم بالجدار المقابل له.. وإذا بأربعة جنود مسلحين من الجيش السوري يصرخون“بدكون حرية.. هاي هي الحرية” وأخذ أحد الجنود أمي من بين يدين جدتي وأخذ يضربها فذهب أبي ملبياً أستغاثاتها المكسورة فقام جندي أخر بأطلاق الرصاص على أمي..  وبعد  تحملها أمي رصاصة واحدة لم يستطع جسدها الهزيل أن يرحب برصاصةٍ أخرى فسقطت.. وأخذ أبي يركع لهم ويخضع لأوامرهم.. ولكنهم لم يكترثوا لهُ.. فراحوا يسحبون جدتي وهي التي لا تقوى على المقاومة فأوقفها أمام أعيننا وقال من كان ممسكاً بها ومحاولاً أن يغطى فمها الجميل بيديهِ القذرة“هاي هي الحرية ألي بدكن إياها” فأخذ يمرر السكين على عنق جدتي حتى خرج من بين هذا الشق كمية ضخمة من الدماء التي أخذت تشق طريقها محاولةً النزول إلى الأرض ملطخةً في طريقها بشرة جدتي وتجاعيدها الحنونة.. أخذ جدي وأبي يتوسلان لهم بأن يتركوا البقية.. ولكنهم سحبوهم في المنتصف وجعلوا يضربونهم بأرجلهم المتينة ويشتمونهم بأبشع الكلمات.. كانت حينها أختي سهام تحضنني غير أني لا أحس بها كانت دموعنا لا ترى سوى الغبار من أثار هدم بيتنا الجميل و الدم المنتشر في أرجاء الأرض والنابع من جثة أمي وجدتي الطاهرة.. كان منظرالدم مرعباً لدرجة أنه بدأ يزحف حتى قَبَلَ أرجلنا بكل شجاعةٍ وأنذار.. وبعد أن فرغوا  أو تمللوا من ضرب أبي وجدي قام أحدهم بسحبي من أحضان أختي وجرها بعيداً عني وهي تصرخ غير مستغيثة أو مبالية بما حدث لجدي و أبي أخذت تصرخ بي“وردة أهربي.. أهربي يا وردة لا يمسكوكي”.. ولكني لم أفهم ما كانت تعنية أختي.. كنت لا أزال أنظر إلى وجه أمي المشبع دماً.. وإلى أثار ضرب جدي على ظهرهِ.. هذا الظهر الذي قبل سويعات كان يحملني بكل لطفٍ وسعادة.. ليوصلني إلى سريري بكل أمان..ثم ألتفتُ على أبي الذي لا يقوى على الحراك.. وتذكرت أنهُ لم يتناول اليوم من كعكتي شيئاً معتذراً مني ومتعهداً لي بأنه سيتناولها في الصباح.. ثم ألتفتُ على ثلاجة بيتنا حيث تنام بقايا كعكتي هناك فوجدتها مرميةً أختلطت بالدماء والتراب ولم تعد صالحةً للأكل.. عدت بالنظر إلى جدتي التي فارقت الحياة وهي تقسم نظراتها بيني وبين زوجها الذي أرتفعت روحهُ بعدها بدقائق.. وكأنه رفض الحياة بعدها.. أما أبي فكان ينظر ووجههُ مستلقٍ على الأرض ويبكي.. لا أظنه كان يبكي من الألم رغم ضعف جسدهِ ولكني أعتقد أنه كان يبكي علي فهو لم يكتب لهُ عمر ليرى متى سوف ترسم أبنتهُ أول لوحاتها الفنية.. متى سوف تتخرج من المدرسة وتصبح فنانة مشهورة متى سوف تتزوج؟.. مات أبي وهو لايزال ينظر إلي.. صحيت من غفوتي وهربت بقدرة ربي.. ومن سوء حظي لم يستطع أحد أن يمسك بي!.. وبعد ساعاتٍ من الأختباء طالت ثوانيها بين الخوف وبين البكاء.. ومحاولات يائسة في عدم تذكر ما حدث لأهي.. وعدم محاولة تخمين ما حصل لأختي.. قضيتها بكل موتٍ وحسرة.. كنت صامتة كالموت الذي يحيط بي رغم ثرثرة الرصاص من حولي.. كان بداخلي مئة صرخة وألف أستغاثة ومليون رجاء أن يكون هذا كابوس.. لابأس بالكوابيس إن كانت كذلك.. ولكن رغم محاولاتي بإقناع نفسي أن ماحدث حلماً سأفيق منه.. ألا أنني كلما تذكرت صرخات جدي طالباً ومترحماً من جنود الجيش أن يوقفوا ضربهُ ويباشروا في قتلهِ.. تكبر في رغبة جشعة في الخروج والبحث عنهم في محاولةٍ أنتحارية قد تلحق بي إلى حيث يذهب بقية أهلي.. ألا أنني أتذكر حينها أنني لم أتأكد من مقتل أختي بعد فأحاول تصبير نفسي وتكبيلها بالهدوء الغير مجدي.. كنت أتمنى أن أصبح لبعض الساعات مشلولة الأطراف كي لا تخرج أصوات أرتجافها المرتطمة بأثاث المنزل.. وكأن الله كان ينظر إلى فأنزل علي رحمته وسكينتهُ فأغلاق جفني وأجبرني على النوم.. وكأن أذناي أعتادت على أصوات سقوط الجثث والجدران.. وأصوات الأستغاثة والشتم واللعن والبكاء.. وأصوات الرصاص والمدافع والقنابل.. وكأنها كانت تعزف لي أزعج الألحان الموسيقية.. نمت حتى خرجت الشمس معلنةً صباح لا يشبه الموت في شيء من شدةِ بؤسهِ وكأبتهِ.. أستيقظت في أحد الأدراج وفوقي قطعة كبيرة من الجدار تكاد تقاسمني القليل من الفراغ الذي أنعم بهِ.. سمعت أصوات بكاء جديدة.. ولم أسمع أطلاقاً نارياً.. فعلمت أن الجنود قد رحلوا.. ولكني لم أعلم بعد متى سيأتون مرة أخرى ليتأكدوا من موت الجميع.. وعدم هروب ضحية أخرى مثلي.. سمعت صوت جارنا أبو صالح يصرخ وينادي أبي.. وتصورتهُ تماماً كما تركتهُ ليلة البارحة.. أي قبل ساعات قليلة فقط.. بدأت بالموت من جديد.. بدأت أصرخ لا مستنجدة بل متيقنه أن ما حدث لم يكن حلماً.. ولن أستطيع ممارسة العيش كما أعتدتُ.. صرختُ حتى أحسستُ  بحنجرتي تتمدد وكأنها تبغي الخروج من جلدي.. وما هي ألا لحظات حتى سمعني أبو صالح وحاول بكل جهدٍ أن يكتشف مكاني مستعيناً ببكائي.. وبعد أن رأى أنني تحت الأنقاض.. حدثني“وردة؟ أنتي هون؟ حبيبتي ما تبكي هلأ أنا بطلعك ثواني بس لجيب حدا يساعدني ما تبكي حبيبتي أي؟”.. لم أرغب بالخروج مما كنت فيه كنت أتمنى أن يسقط على جدار أخر فأهرس أو تخرج روحي من شدة الخوف.. ولكنها دقائق فقط حتى رأيت يد العم أبو صالح تمتد لي.. أمسكتها كالتي تريد الخروج من الغرق.. كنت أريد أن أخرج وأشاهد أبي وأمي وجدتي وجدي وسهام وكريم قلقين علي.. على أعينهم أبتسامة تزداد كلما خرج جزء من جسدي من بين هذا الحطام.. ولكنني لم أجد ألا العم أبو صالح وبعض من نجى من أهل الحارة.. خرجت فضمني مخفياً رأسي بين ضلوعهِ محاولاً تغطية عيوني عن هذا المشهد المجرم.. كنت أبكي بين ضلوعهِ وكأنني لم أبكي لساعاتٍ طويلة.. كنت لا أشعر بشيء حتى بدموعي.. كنت كالروح التي أغتصبتها جسد ورفض الجسد أن يمتثل لأوامرها.. أخرجني خارج البيت وتركني بين يد أحدى النساء التي كانت أيضًا تبكي لفقدها أطفالها.. بالرغم من بشاعة الهواء الذي كنت أتنفسهُ ألا أنني تمنيت أن أشتم رائحة أبي كعادتي كل صباح أون أقبل رأس ويد أمي وأن ألعب بجدائل جدتي و أن أتناول أفطاري بين أحظان جدي.. فهربت بسرعة دون أن تستطيع تلك الضعيفة أن تمسك بي.. وعدت إلى منزلنا أو ما تبقى منهُ.. دخلت من النافذة فهي المكان الوحيد المهيئ الآن لدخول والخروج.. توجهت إلى جثة أمي.. وكلما أقتربت خطوة أزداد تلوث حذائي بالدم أكثر وأزدات رائحة العفن قوة.. أقتربت من رأس أمي وقبلتها بدموعي.. كنت أحاول بكل ما أستطيع من قوة أن أنادي عليها.. ولكن شفتاي رفضت كانت مشغولة بالأرتجاف فقط ولم تسمح لي بفعل شيء أخر.. ثم توجهت إلى أبي حاولتُ  أن أقلبهُ على ضهرهِ وفعلت.. وياليتني ما فعلت.. لم أرى شيئًا من جسدهِ.. كان كل شيء أحمر.. وكانت ملابسهُ صلبة.. ليست ناعمة كعادتها.. ربما من تشرب الدم لملابسهِ!.. ورحت أُقَبِلُ خدهُ الذي لم تتمسسهُ قطرةُ دم.. وأبكي عليه.. وأتجهت إلى جدتي التي أنفصل عنقها المستقيم وأصبح كالزهرة التي تحركها رياح الربيع.. ضممتها بقوة وأنا أصرخ.. وسمع الناس صرخاتي  أو أن تلك الأم أخبرتهم فتتبعوني.. وحاولوا بكل ضعف أن يجتثوني من قاع الموت وأنا لم أودع جدي بعد.. ألقيت عليهِ النظرات الأخيرة.. كان ضهرهُ كلون العنب.. وكان لدم ثورة في جسدهِ لم تخرج بعد.. ونحن في طريقنا إلى الخارج سقط علينا أحدى الجدران المتأخرة.. فكانت رحمة الله لي أنني ضعيفة وأستسلمت للموت مرحبةً بهِ وكلي رغبة وجشع في أن تخرج روحي قبل الجميع.. وبالفعل حصل ما تمنيت.. أصبحت الآن جثة كبقية أهلي.. أما من معي فلم يصبهم ألا بعض الجروح والكسور التي لم تكن شيئاً ثقيلاً عليهم.. فتناولوني من بين الحطام.. وهم يصيحون”ماتت وردة.. ماتت الله يلعنك يا بشار أنتا وكلابك”.. ثم قاموا بإدخالي إلى أحد المنازل الذي أصبح كثلاجة الموتى.. وفي الحقيقة أن المنزل نفسهُ لايملك ثلاجة.. وضعوني بجانب أطفالٍ كثر.. لم أستطع عدهم ولكنهم كانوا كُثر.. وغطوا جسدي المليئ بالغبار بأحدى الأغطية.. وراح الجميع يترحم علينا.. أخذ بعضهم جوالهُ وأصبح يصورني ويقوم بنزع الغطاء عني ثم يعيدهُ ليغطني من جديد.. وأتى أخر يعد الضحايا.. فكنت الضيحة رقم سبعة وثلاثون.. ولم أستطع سمع باقي العد لإختفاء صوت الرجل بين البكاء واللعنات.. نظرتُ  بجانبي وإذا بطفلٍ يصغرني سناً قطعت عنقهُ وفصلت عن جسدهِ.. تماماً كرأس جدتي.. فعلمت ماذا سوف يحصل لي لو لم أهرب لليلة البارحة.. ثم قام رجل بوضع طفلٍ أخر فوقي وفوق الطفل الذي بجانبي.. أعتقد بأن البيت كان مليئًا بالأطفال وألا لوجدت هذه الجثة مكاناً يليق بها ولم توضع فوق باقي الجثث كقطعة من اللحم.. وبعد ساعاتٍ قام أهل الحارة بوضعنا في القبور بجانب بعضنا البعض في حفرةٍ طويلة وعميق.. ألا أنها كانت ضيقة لكثرة الجثث التي ترغب بالتواجد بيننا.. تذكرت أخي كريم.. وتمثل أمامي وهو في حجرتهِ يذاكر دروسهُ.. فأرتحت قليلاً غير أني تألمت لأنني لم أودعهُ ولم أضمه لأخر مرة.. وقطعت حسرتي أختي سهام.. وهي تقفز كالمجنونة دون وعي إلى القبر وتصرخ بي“وردة.. وردة قومي حبيبتي لا تموتي.. لك ما في حدى ألي بهالدنيا غيرك.. كِلن ماتوا.. دخيلكون ياناس دخيلكون ياعرب”.. وأخذت تصرخ وتبكي.. وختلط وجهي بدموعها وبالدم النازف في وجهها.. وقام أحد الرجل بإخراجها بعيداً وأتى بقطعة قماش ومسح دموع أختي الباردة ودمها الحار عن وجهي..وبدأ الناس برمي التراب علينا وعلى وجوهنا.. سقطت أو رملةٍ في عيني فأحسست ببرودها.. وأرتحت قليلاً.. ثم بدأت أحس بالضيق أكثر وأكثر حتى دُفنتُ تحت التراب.. كأحدى بذور الورد دُفنتُ أنا وباقي الأطفال  كي نزرع غداً لسوريا ورداً جميلاً يفوحُ شذاً وعطراً في أول أيامنا كورودٍ نزين عالم الحرية.

شكراً للفنانة : سلوى أيوب

لتواصل مع الفنانة /

عبر تويتر : @AnamelArt

عبر الأنستقرام : anamelart

عبر الأيميل :  salsa.50@hotmail.com

ما لا تراهُ هي في روتينها!

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

كما وعدتكم.. هذا أول تعاون لي مع الريشة

للفنانة التشكيلية : سلوى أيوب من الكويت

نعست ..

وتسلل الحلم الأبيض إليها ..

تحت ملابس من الصوف تقع مستعمرة من الدفء ..

وعلى سريرٍ اختلفت ألوانهُ ولكنه متجاهلٌ ذلك ..

فنعمة الحصول على ملمس جسدها هو أكبر من أحلام وحدتهِ ..

وعلى أطراف ذاك السرير يتبعثر شعرها برفق منسدل ..

حيث تصمت الأشياء دون نطق أو همس ..

تتنفس وتخرج  الهواء عطراً يذوب من عذوبتهِ ..

يداعبها الحنان عندما يلاصق مسامات جسدها المخملي ..

وعندما تبتسم في منامها يُقَبِلُها رذاذ الطيف بشغف خجول  ..

تتسارع نسمات الهواء البارد لتقرص جلدها فتسرع لتدفء مكان القرص بيديها الحنونة ..

كل شيء حولها يصرخ سعيداً ألا تلك الأماكن التي تجلس بعيدة عن جسدها

تستيقظ وردةً متفتحة فَـ تشرق شمس الصباح مُناديةً ..

أستيقظوا من النوم أيها الراقدون فالصبح قد أطل بحلةِ الجديدة ..

تتشاءم الوسادة ويسعد الغطاء لبقائه ملتفاً حول جسدها ..

فتذهب بالغطاء إلى حمامِها الوردي ..

يستقبلها الكل برائحتها هي فهي أجمل من كل الروائح ..

تقوم بغسل وجهها بالماء ..

آآه كم أحسد ذلك الماء ..

فرشاة أسنانها المغرورة المحظوظة  !!

ففي كل صباح تعانقها أصابعها ويصل رأسها إلى أعماق فمها اللذيذ

يعود ذلك الماء الجاهل بتلك النعمة التي يعيش فيها ..

ليغرق في فمها وتخرجهُ بكل لُطفٍ و أمتنان ..

تخرج من ذلك الحمام الذي أصبح يعشق دخولها ..

لتقف بطولها الممشوق وعودها المتين أمام أجمل مرآة ..

 في تلك الأثناء تتعارك المرطبات والعطور و مصفف الشعر على يديها السمراء..

فتأخذ ما تحتاج منهم تاركاً الغير يموت في غيظه ..

تذهب راقصاً في خطواتها إلى دولابها الواسع ..

وما أن تفتحهُ حتى تصطف الملابس كاصطفاف جنود العسكر ..

فتقوم بلمس ذلك الفستان الزهري.. فيصبح مبتهجاً

وتتركه حزيناً لتتحسس القميص الأبيض.. فيصيح فرحاً

وتتركه باكياً لتأخذ البدلة الرمادية.. فـ تضيق خجلاً

تقوم بإغلاق دولابها تاركةً الملابس الأخرى التي لم تحظى بلمسة منها تجر أهات القهر والحسرة ..

تذهب الجميلة لإرتداء ما راق لها ذوقها المجرم ..

فهي غير مبالية لتلك العيون التي تقع عليها عندما تراها ترتدي أجمل ما عندها مُخفيهٍ محَاسنها التي بدت أجمل مما أظهرت ..

تخرج بعد أن يغمر الفستان جسدها المثالي ..

لتسمع صرخات تلك الأشياء من ذلك المظهر الرهيب .. ولو أن تلك الأشياء تُسمع لتكسر كل زجاج البيت من حدة الصُراخ

يتغزل الفستان بها بعد أن نام في أحضانها ..

تاركاً تلك الخيوط الخارجة  في غير إرادة منه ترجوه وكلها أمل في عدم السقوط إلى الأرض المشئومة ..

تخرج الأميرة إلى مكان عملها تاركاً البيت  للغزاة من للأشباح والعفاريت ..

حيث يستقبلها من في العمل بإبتسامة تخفي نوايا وأمنيات لطالما تمنت البوح !

تسترق عقارب الساعة النظر إليها كلما نظرت إليها ..

يأتي الفراش “محروس” ليضع لها قهوتها ويقول ..

“صباح الخير يا وجه الخير على من صبح عليكِ “

فَـ تنجلي شفتيها لتبتسم لهُ ولكلامهِ المعسول ..

تمسك كيساً من السكر

ويندهش كل من في المكتب من نوافذ و ستائر و أقلامٍ  و أوراق وكنب ..

فكيف لسكرٍ بأن يُمسكَ سُكَراً أخر !!

تقف عقارب الساعة الموضوعة على مكتبها الفاخر ..

ممثلة لها أن ساعات العمل لم تنتهي راجية من تلك المسرحية أن تنال على أعجاب جمهور عيونها فيبقى إلى أن تنتهي المسرحية ..

ولكن المتطفلين لا يتركونها وحيدة !

يدخل أحد الموظفين مبتسماً ليقول لها : سيدتي لقد انتهى وقت العمل ألن تذهبي إلى المنزل ..؟

فتنظر إلى ساعتها التي عادت إلى وضعها الطبيعي كي لا يخالجها الشك فتقوم باستبدالها بأخرى جديدة فَـ تُحرم من ذلك النعيم ..

يتسع مجال عيناها لترى جيداً كم الوقت الآن ..

وما أن ترى الحقيقة حتى تنهض تاركةً أوراقها الدافئة وقلمها الأنيق ..

لتعود إلى المنزل  فتهرب الأشباح  والعفاريت لتستوطن الورود و الأزهار فيه ..

وما أن تصل إلى غرفتها المشتاقة حتى ترى ذلك المنظر الخليع !!

منظر السرير العاري ..

فيشدها التعب و الإرهاق إليه ..

فَـ تسرع لتأخذ حماماً ساخناً لتريح أعصابها ..

وفي حمامها يمتلك البخار أغلب المساحات هناك ..

فهو أشد الكائنات غيرةً عليها ..

تخرج الجميلة من الحمام كخروج أحدى بطلات أفلام السينمائية ..

فخروجها لا يُعد خروجاً عادياً فأنني أكاد أجزم أنهُ مُدرسٌ كـ أحدى الفنون الصعبة إتقانُها ..

تقوم بتغير ملابسها وترتدي ثوب نوم خوخي اللون أقرب إلى الناعم فلا شيء أنعم وأرق من جسدها ..

وترمي بنفسها إلى الفراش الذي أستقبلها بعناق الغائب المشتاق  ..

عندها تختار أحلامها ودائماً ما تختار حلمها الأبيض فهو المفضل لديها حيث لا شيء يستطيع أن يُعكر مزاجها أثناء نومها البريء ..

وما أن يسرق النوم استيعابها مستعيناً باسترخائها التام ..

حتى تغلق أعينها الخجولة ..

ليعود مسلسل ما حدث كل يوم مع فارق تغير الملابس المحظوظه ..

وذلك المتطفل و كمية الماء المحسودة مع اختلاف سعادة كل من في غرفتها.

لتواصل مع الفنانة سلوى أيوب /

عبر تويتر : @AnamelArt

عبر الأنستقرام : anamelart

عبر الأيميل :  salsa.50@hotmail.com

قصتي مع القدر ( 30 ) .. – النهاية –

بعد أسبوعين من اللقاء المستمر مع الهنوف والخروج إلى بعض المطاعم .. يسافر بدر وعمر وزياد إلى الرياض لحضور معرض الكتاب ليومين .. أول عطلة بعد كتابة العقد يكون بدر فيها بعيداً عن الهنوف .. بالرغم من بعد المسافة بينهم ألا أن الرسائل لم تغفو لساعة .. يجلس بدر بجانب زياد الذي يقود سيارتهُ .. ممسكاً هاتفهُ مبتسماً للحظة وضاحكاً للحظات .. يتأمر عمر وزياد على بدر ويقولان له أن يترك هاتفهُ وألا أجبرهُ على القيادة .. يقوم بدر بالأستسلام لهم ويدخل هاتفهُ إلى جيبيه .. وفي لحظة وصولهم إلى الرياض يخرج بدر هاتفهُ ليطمئن الهنوف، فيقول زياد : وهل ستقوم بالأتصال عليها عندما نجد سكناً أم بعد أن ننزل الحقائب .. يضحك عمر وزياد ويلتزم بدر برغبتهِ فيقوم بالاتصال عليها ..

الهنوف : أهلاً يا حبيبي ..

بدر : أهلاً بكِ .. لتو دخلت إلى الرياض .. أردتُ أن أطمئنكِ فقط ..

الهنوف : حمداً لله على سلامتكم ..

بدر : سأتصل بكِ حالما ينام من معي فهم مزعجين كثيراً ..

الهنوف تضحك : حسناً مع السلامة .. أنتبه لنفسك ..

بدر : وأنتِ أيضاً .

يتلفت زياد على بدر ويقول ضحاكاً : ومن أكد لك بأنني سأخلد لنوم هذه الليلة فأنا لن أنام حتى أراك حالماً ..

عمر : لا تنسى يا بدر أننا سوف نقوم بحجز حجرة واحدة ولن تستطيع الهرب من زياد

بدر : لكل حادثٍ حديث .. سنرى لاحقاً من سوف يخلد لنوم أولاً ..

هكذا كانت الرحلة .. يصارع بدر زياد .. وعمر يقف بالمنتصف أحياناً يساند زياد وأحياناً يدافع عن بدر ، وبعد يومين قضاهم بدر في أنحاء الرياض .. لم ينتهي معرض الكتاب بعد ولكن ألتزام بدر بالعمل وزياد وعمر بالجامعة ينص عليهم العودة، يعود بدر وعمر وزياد يوم الجمعة بعد أن تناولوا طعام العشاء .. تأخر الوقت عليهم والتعب عنوان كل موضوع يتحدثون عنه .. يفتح بدر كتاباً للكاتب “توفيق الحكيم” بعنوان ” الرباط المقدس ” .. يقرأ بدر حتى يغلبهُ النعاس ..  يغفو بدر وعمر تاركين زياد يصارع الطريق المظلم لوحدهِ .. هاتف بدر الذي تم الأتفاق على أقفالهِ إلى أن يصل إلى بيتهِ .. كانت الهنوف على علمٍ بذلك فلم يكن هناك أي داعٍ للخوف .. غير أن الطريق لا يأخذ أكثر من ثلاثة ساعات ولقد مر على خروجهم من الرياض أكثر من أربع ساعات .. بدأت الهنوف تقلق .. تفكر في الأتصال على والدة بدر والتأكد من أن بدر في سريرهِ نائماً وناسياً الاتصال عليها .. غير أنها لم تترك الشارع للحظة ولم ترى سوى بعض السيارات المارة ولم تتوقف سيارة واحدة أمام بيت بدر .. تنتظر الهنوف وتصبر داعية الله أن يكون قلقها مجدر خوف طبيعي .. الساعة الآن الثانية بعد منتصف الليل .. لا تستطيع الهنوف أن تمنع قلقلها من السيطرة على تفكيرها .. فتتجرأ وتقوم بالاتصال على والدة بدر .. ولكن والدة بدر لم ترفع السماعة .. قلق الهنوف أصبح شيئاً مرعباً .. تعود للاتصال على والدة بدر مرةً أخرى .. وبعد لحظات من سماع صوت صفارة الرنين ترفع والدة بدر الهاتف مفزوعةً : الهنوف ماذا بكِ ؟ هل حدث لكِ شيء ؟ هل كل من في منزلكم بخير ؟

الهنوف : نحن بخير يا خالة ولكني قلقة على بدر فهو لم يقم بالاتصال علي بعد .. هل تستطيعي أن تتأكدي أن كان نائماً بسريرهِ أم لا ؟

والدة بدر : من المفترض أن يكون نائماً الآن فلقد مر على خروجهم خمس ساعات ..

الهنوف : فقط أريد أن أطمئن عليه ..

والدة بدر : حسناً لكِ ذلك ساتصل عليكِ بعد قليل أو سأجعلهُ يقوم بالاتصال بكِ ..

الهنوف : ذلك أفضل .. أسفةٌ على الازعاج يا خالة فلم أستطع أن أنام وبدأت أقلق كثيراً ..

والدة بدر : لا داعي للأسف يا حبيبتي .. ستسمعين صوتهُ بعد قليل ..

الهنوف : حسناً مع السلامة ..

والدة بدر : مع السلامة .

تغلق والدة بدر الهاتف وتقوم من سريرها خائفاً بعض الشيء .. محاولةً الاتصال على بدر .. تدخل إلى حجرة بدر وتجد سريرهُ مرتباً ولا يوجد أثر للحاقب أو لعودة بدر .. هاتف بدر مغلق .. تسرع إلى حجرتها وتوقظ زوجها والقلق يسكن عيونها .. يستيقظ أبو بدر مفزوعاً مما رأى .. ويحاول أن يفهم ما الذي حدث .. بعد أن أجبرها على الصمت للحظات وأخذ نفسٍ عميق وأخبرها بالتحدث ببطئ شديد حتى يستوعب حديثها .. بدأت بأخبارهِ أن الهنوف كانت قلقةً على بدر وأنه لم يعد إلى البيت بعد .. في تلك الأثناء تتصل الهنوف على والدة بدر للأطمأنان ..

فتدمع وتقول: ماذا أقول لها .. أنا لا أعلم ..

والد بدر : قومي بأخبارها بأن بدر نائماً وأنهُ منهك من السفر ولم أستطع أيقاظهُ من النوم ،  تقوم والدة بدر بفعل ما أمرهُ بها زوجها .. وتغلق الهاتف بقلق مرعب على أبنها .. يحاول والد برد أن يفكر بطريقة يطمئن بها زوجته ..

فيقو لها : هل لديكِ هاتف عمر أو زياد ..

فترد بالنفي  وتقول : ناصر لديهِ هاتف أخو عمر ويستطع أن يأتي لنا برقمهِ .. ذهب والد بدر للحديث مع ناصر وقام ناصر بالاتصال على صديقهِ وأخبرهُ بأن يقوم بإرسال هاتف عمر له ..

وفي حال وصول الرقم تدخل والدة بدر عليهم وتقول : هل عمر بالمنزل ..

فيجيب ناصر : لا عمر لم يصل للمنزل بعد،  يأخذ والد بدر الهاتف من يد ناصر ويقوم بالاتصال على عمر والذي كان يرن دون أجابة .. عينان والدة بدر بدأت تتسعان وتلقيان من الدمع ما يفزع ناصر.. يعود والد بدر الاتصال على عمر الذي لم يرفع سماعة حتى الآن، في الجانب الأخر كانت الهنوف نائمة يُراودها كابوسٌ مرعب .. كابوس ترى فيها نفسها تبكي بحرقة على فقد بدر والذي تم دفنهُ .. تجد نفسها في منزل بدر تصارع والدة بدر بين البكاء وبين الغرق في أشياء بدر الموزعة في حجرتهِ .. تستيقظ الهنوف مرعوبةً من هذا الكابوس تلتفت على يسارها وتنفذ ثلاثاً وتستعيذ بالله من الشياطان ووساوسهِ .. تحاول العودة إلى النوم ولكن لا سبيل للنوم بعد هذا الكابوس المرعب .. بالرغم من أطمأنانها ألا أنها قامت بالاتصال على بدر والذي لا يزال مغلقاً هاتفهُ .. تعود وتحمد الله على كونهُ لايزال على قيد الحياة وينعم بقسطٍ طويلٍ من الراحة .. تقوم الهنوف بالأنشغال بأي شيء أخر فلا نوم يرغب جفنيها، بعد عودة والد بدر من صلاة الفجر يهم بالقيادة إلى الرياض ليرى أن كان هناك أثار حادث أو يستطيع التحدث مع أحد أفراد الشرطة ليتأكد بأنهُ لم يتم التبليغ عن أي حادث على طريق العودة من الرياض .. وفي الطريق إلى الرياض وقبل أن يخرجوا من حدود المنطقة الشرقية يرن هاتف والدة بدر .. وإذا بالمتصل عمر .. يأخذ الهاتف والد بدر ويقوم بالرد :

عمر : السلام عليكم ..

والد بدر : وعليكم السلام .. من معي على الهاتف .. هل أنت عمر ؟

عمر : نعم ..

والد بدر : أين أنتم؟

عمر : نحن في المستشفى ..

والد بدر : هل بدر بخير ؟

عمر : جميعنا بخير هي مجرد كسور بسيطة ..

والد بدر : أريد أن أتحدث مع بدر ..

عمر : بدر الآن في غرفة الأشعة ..

والد بدر : حسناً .. أي مستشفى

عمر : نحن في  مستشفى الأمير سلطان ..

والد بدر : نحن في الطريق إليكم ..

يغلق والد بدر السماعة وتبكي والدة بدر وتقول : لماذا لم تتحدث مع بدر؟ هل هو بخير؟ ماذا حدث له؟

والد بدر : يقول عمر بأنه في غرفة الأشعة .. وأنها مجرد كسور خفيفة .. أطمئني ..

والدة بدر : لن أطمئن حتى أرهُ في عيني ..

يسرع والد بدر بينما يحاول أن يهدأ من روع زوجتهِ التي تقلل من تركيزهِ وتزيد رعبه .. وفي المستشفى يقف زياد بجانب عمر .. أصيب عمر بكسر في الساقهِ اليُسرى ورضوض بسيطة في كتفهِ .. إما زياد فلقد أصيب بكسرور في كتفهِ الأيمن ويدهِ اليُمنى .. يملك كلٌ منهما بعض الجروح الطفيفة على الوجه والأرجل .. تصاب والدة بدر بالذعر عندما لا ترى بدر يقف بجانبهم .. يجبر والد بدر زوجتهُ على الجلوس في أحدى كراسي الأنتظار حتى يعلم ماذا حدث ويأتي لها بالخبر .. يتحدث والد بدر مع زياد وعمر بعد أن يطمئن عليهم .. ويسألهم عن بدر .. ينظر كل من زياد وعمر إلى بعضهم البعض .. يبكي زياد ولا يستطيع أن يتمالك نفسهُ .. يتملك والد بدر الغضب ويصرخ فيهم : أريد أجابة أين أبني ..

عمر : أبنك على قيد الحياة .. لا تقلق فهو على حسب حديث الدكتور محظوظ ..

والد بدر : أين الدكتور؟ أريد التحدث معهُ .. وأين أبني ؟

عمر : الدكتور وأبنك في غرفة العمليات ..

والد بدر : لماذا العملية ؟ ..

عمر : يقول الدكتور أن هناك جروحاً عميقة تحتاج إلى تنظيفٍ وتخييط .. كما يريد أن يتأكد من سلامة جميع أعضاء بدر .. أطمئن فبدر قوي ولن يصيبهُ مكروه أن شاء الله، يعود والد بدر إلى زوجتهِ ليخبرها بأن أبنها بخير وأنه يتم فحصهُ .. لم يستطع أن يقول لها بأنهُ في غرفة العمليات كي لا تسقط أمامهُ .. يعود والد بدر إلى زياد وعمر وليعلم كيف حصل هذا الحادث ! ..

يتحدث زياد وشفتيه ترجفان : كنّا في منتصف الطريق كان عمر يجلس بالخلف وكان بدر بجانبي يقرأ أحد الكتب .. نام عمر وبعد دقائق نعس بدر ونام أيضاً .. كنتُ متعباً والطريق ساكن .. لا يوجد الكثير من السيارات .. لا أعلم ماذا حدث ولكني متأكد بأن بدر لم يضع حزام الأمان .. ( تدمع عينين زياد ) .. غفوت لثواني قليلة لأجد نفسي ملقاً على التراب وأجد بدر على مسافة بعيدةٍ مني مستلقياً على الأرض .. ووجدت أحد الأشخاص بجانب عمر .. قمت بسرعة إلى بدر ولكنهُ لم يتحرك ظننتهُ ميتاً .. يغطي وجههُ كمية كبيرة من الدماء .. جلستُ أصرخ كالمجنون طالباً المساعدة .. فأتاني ذاك الرجل الذي كان يقف عند عمر .. ليخبرني بأنه طلب سيارة الأسعاف وأنها في طريقها إلى هنا .. ذهبتُ لأطمئن على عمر .. وإذا بهِ جالس لا يستطيع النهوض .. لم أشعر بالكسور ألا عندما وصلنا إلى المستشفى ربما بسبب الذعر الذي كنت أعيش فيه .. أرجوك يا عمي سامحني أنا السبب في كل ذلك لو لم ..

يقاطعهُ والد بدر : توقف يا أبني لو تفتح عمل الشيطان .. وأن ما حدث مكتوبٌ  لا يد لك فيه ..

زياد يبكي مرتجفاً : ولكن كان من المفترض أن ..

والد بدر : قلت لك توقف عن الأفتراض .. ما حدث قد حدث والمهم هو سلامتكم جميعاً .. هل والديكم على علم بما حدث لكم ..

عمر : نعم وهم في طريقهم إلينا الآن ..

والد بدر : حسناً ليأخذ كل منكم قسطاً من الراحة الآن فلابد بأنكم متعبون .. وفي حال وصول والديكم ليقوموا بأخذكم إلى البيت فلا حاجة إلى الجلوس هنا ..

زياد : أنا لن أخرج حتى يخرج بدر من المستشفى ..

والد بدر : لا داعي لذلك فكلكم متعبون ..

في تلك الأثناء يأتي الدكتور المشرف على حالة بدر ويقترب منهم قائلاً : هل أنت والد بدر ؟

والد بدر : نعم .. أخبرني كيف حال بدر ؟ وهل أستطيع أن أراه الآن ..

الدكتور : بدر في حالة في تحسن .. حالةُ مستقرةٌ الآن والفضل لله .. ولكن يجب أن تعلم بأن بدر خرج من زجاجة السيارة الأمامية بعد أن كسرها من قوة الصدمة وأرتفع في الهواء ثم سقط على الشارع .. كان سقوطهُ أقوى تأثيراً من خروجهِ من السيارة .. الحمد الله أنهُ لم يكن هناك طرفٌ أخر وأنه كان مجرد أنحرافٍ عن المسار وكسر سياج ولم تكن سيارة أخرى أو شاحنة ضخمة ..

والد بدر : هل أستطيع رؤيتهُ الآن ..

الدكتور : تعال معي أريد أن أريكَ شيئاً قبل أن تدخل عليه ..

يدخل والد بدر إلى مكتب الدكتور ويغلق الباب خلفهُ .. والد بدر لا يزلا متوتراً ولكن لسانهُ لم يتوقف عن ترديد ” لاحول ولا قوة ألا بالله،أنا لله وأنا إليهِ لراجعون،الحمدالله على كل حال” .. يجلس والد بدر وينتظر من الدكتور أن يبدأ الحديث ..

الدكتور : في الحقيقة .. عندما كنّا في العملية كان أبنك مستيقظاً .. يشعر بالألم .. ولكن في المنتصف توقف عن الشعور .. أعتقدُ بأنهُ فارق الحياة ولكن نبضات قلبه لم تتوقف .. وذلك يشير إلى أن أبنك دخل في غيبوبة .. لا يجب عليكَ القلق من ذلك .. الخبر السيء هو أنهُ في حال خروجهِ من الغيبوبة هناك أحتمالٌ كبير .. سأكون واضحاً معك .. أن خرج برد من الغيبوبة لن يستطيع الرؤية من جديد .. وظائف عينيهِ لم تعد تعمل .. الضربة كانت شديدةً على ذهنه .. الحمد الله أن باقي وظائف جسمهِ تعمل .. الحمد الله أن عقلهُ لايزال يعمل .. تلك الضربة كانت شديدة لدرجة أنني ظننت أنهُ قد أصيب بشلل .. ولكن الله لطف بهِ ..

والد بدر يأخذ نفساً عميقاً بعد أن يمسح دمعاتهِ التي لا يريد من الدكتور الأطلاع عليها : هل تقول بأن أبني أصبح أعمى .. ولا يستطيع الرؤية أبداً .. ماذا أقول لوالدةِ التي تبكي عليه على كراسي الأنتظار وهي لم تعلم بعد ماذا حدث له .. تظن بأن بدر بخير ..

الدكتور : أنت مؤمن بالله يا أبو بدر وتعلم أن ماحدث قضاءٌ وقدر .. ولقد أخبرتك سابقاً بأن بدر كان محظوظاً .. أقل شيء قد يحدث لضربة الرأس هو فقد العقل أو أرتجاج بالمخ أو فقد الذاكرة وأشنعها الموت .. أحمد الله على أن أبنك لايزال على قيد الحياة سليماً معافى ..

والد بدر : الحمد الله على كل حال .. حسناً هل أستطيع رؤيتهُ الآن ..

الدكتور : نعم ولكن هناك أمرٌ أخر ..

والد بدر : ما هو ؟

الدكتور : ما تحدثتُ عنه كان الجانب السيء .. الجانب الجيد هو أن بدر بإمكانهُ الرؤية من جديد ولكن ذلك لن يحدث ألا بعملية .. وأن عاد النظر إليهِ مرةً أخرى سيحتاج إلى نظارات طبية طوال عمرهِ .. هذا في حال أن عملية نجحت ..

والد بدر : حسناً لماذا لا نعمل لهُ العملية هنا ؟

الدكتور : هذا النوع من العمليات يحتاج إلى دكتور خبير في ذلك التخصص .. وللأسف نحن لا نملك متخصصين في هذا المجال .. ولا أستطيع تزكية أحد المستشفيات في المملكة لوجود قلة قليلة من الدكاترة في العالم والذين يعملون مثل هذا النوع من العمليات .. وقبل أن أعطيك أسماءً أو أرقاماً يجب أن تعلم بأن العملية لن تنجح ألا عندما يخرج بدر من غيبوبتهِ .. وأن أردت أي مساعدة أو سؤال فقط قم بزيارة مكتبي وأن لم تجدني قم بالاتصال بي ..

ينهض والد بدر ويصافح الدكتور بعد أن أستلم بطاقة عملهِ .. ويستعد لأخبار زوجتهِ وأصدقائهِ  بأخبارٍ لم يصدقها هو بعد .. خرج من مكتب الدكتور ونظر إلى زياد الذي يقف بجانب أهلهِ وعمر كذلك .. فيستغل تلك الفرصة .. أخبرهم بما قاله الدكتور عن حالة بدر وترك أمر الأهتمام بردة الفعل والصدمة لأهلهم .. وذهب ليخبر والدتهُ، والدة بدر مؤمنه وذاك ما جعل والد بدر منفتحاً معها في الحديث عن حالة بدر .. كأي أم في العالم فلقد ذرفت من الدموع ما لم يرهُ والد بدر في حياتهِ .. تلقينها أن ذاك قدرٌ ومكتوب .. وأن فعلها لا ينفع بل يضر .. وأن ما عليها سوى أن ترفع يدها لربها فهو وحدهُ من يستطيع فعل كل شيء . لازالت الهنوف تظن بأن بدر نائم ولم يستيقظ من النوم بسبب تعبهِ ولم يخرج إلى العمل اليوم .. لا تزال قلقةً عليه .. تتصل بهِ مرةً أخرى وتجد هاتفهُ مغلقاً .. تستغرب من ذلك فلقد دخل الليل ولم تسمع منه خبراً ! .. تعود إلى الاتصال على والدة بدر والتي لا تزال في المستشفى بجانب أبنها .. يرن هاتف والدة بدر في حقيبتها فتمد يدها وترى أسم الهنوف يتوسط شاشة الهاتف .. ترفع والدة بدر الهاتف وتخفي حادث أبنها عن الهنوف مستخدماً عذرها بالخروج من المنزل منذ الظهيرة وزارعةً فيها اليقين بأنهُ قد نسى أن يشحن هاتفهُ .. يعود الجميع إلى الدمام تاركين بدر ملقاً على السرير لا يعلم بعد ما قد حدث له، عندما توقف والد بدر أمام المنزل لم تستطع والدة  بدرالدخول إلى المنزل قبل أن تخبر الهنوف بما قد حدث .. تقرع جرس المنزل خائفةً من أن تأتي لهم بمصيبةٍ أخرى .. تفتح حنين الباب ويدخلان إلى المنزل .. تطلب والدة الهنوف كأساً من الماء .. ذهبت حنين إلى المطبخ ونزلت الهنوف من على الدرج .. وجه والدة بدر لا يأتي بخير خصوصاً لما تحولت ملامحها عندما رأت الهنوف .. جلست الهنوف بقربها .. وسألت عن حالها ولما هي متعبة ولماذا عيونها حمراء .. بدأت والدة بدر بحديث عما قد جرى بجرعات خفيفة رغم ضخامتها على أذن الهنوف .. تقاطعهم حنين جالبةً كأس الماء والذي أعطتهُ والدة بدر إلى الهنوف وأرسلت حنين إلى المطبخ لتأتي بأخر لها ..  أستقبلت الهنوف هذا الخبر برعبٍ لم تتصوهُ هي خصوصاً بعد ذاك المنام الذي طردها من السرير هذا الصباح .. أيقنت الهنوف أنها قد فقدت بدر إلى الأبد لذلك لم تتحمل كل ذلك فبكت حتى جُرحَ صوتها وخرجت دموعها أصبحت تتوسل وتقبل يدين والدة بدر تطلبها رؤية بدر .. تريد أن ترى حبها .. لن يشفيها جميع ما سوف تقولهُ والدة بدر .. رغبتها في رؤية بدر والحديث معه لم تهدأ .. حتى قطعت والدة بدر عهداً لها بأنهم سيذهبون غداً وسوف تأتي هي معهم .. تمزق بعد ذلك الوعد كل ما يُعرف بالأمل .. لم تترك والدة بدر أذرع الهنوف ولو للحظة أصبحت تمسك بها كمن ستسقط من على أحد الجسور الهرمة .. لم تعد تشعر والدة بدر بكلتا يديها فأصبحت تضم الهنوف إلى صدرها مُصّبرةً إياها دون أي صّبرٍ يسكن داخلها .. أتت والدة الهنوف بعد ما سمعت الخبر من حنين التي أصبحت تبكي على أختها لتأخذ الهنوف من بين أحضان والدة بدر مخففاً عنها كمية الألم التي أرسلتها الهنوف إلى صدرها الضيق .. خرجت والدة الهنوف من منزلهم وعادت كالعجوز التي تسرق الخطوات الثقيلة من الأرض .. لم يغفى جفن لكل من سمع هذا الخبر حتى حنين نامت بجانب الهنوف تبكي على بدر .. والدة بدر أخذت الليل كلهُ في الصلاة والبكاء .. إما والد بدر أخذ هاتفهُ ليتواصل مع معارفهِ لتعجيل عميلة نقل بدر إلى الدمام .. أما الهنوف فكانت تحتفل بحزنها بكل أخلاص وتفاني .. لم تبكي فقط بل أخذت تشهق بعد كل زفير .. صور بدر .. صور بدر ورسائلهُ وحديثهُ لها و قصائدهُ وأشعارهُ المبعثرة على سطح مكتب جهازها المحمول أصبحوا أصدقائها الجدد .. نامت الهنوف بعد أن أشرقت شمس الصباح لتعلن لها أنها ستعيش حياةً مؤلمةً أن لم تتحسن حالة بدر .. يتجهز الجميع لذهاب إلى بدر .. وفي الطريق يتحدث والد بدر إلى الهنوف مطمئناً إياها أنهُ سينقل بدر إلى الدمام غداً وأنهُ عندما يفيق من غيبوبتهِ سيرسلهُ إلى أفضل الأطباء في الخارج لعمل ما يجب مهما كانت التكاليف .. والهنوف لا ترد ألا بالدعاء والبحمد الله على كل حال .. أمام غرفة بدر يدخل والده أولاً يسلم عليه ويغسل وجههُ ليمسح أثار بقع الدماء البسيطة والتي لا يريد من الهنوف رؤيتها .. يخرج لتدخل والدة بدر والهنوف سويةً .. تمسك والدة بدر الهنوف .. تضع الهنوف يدها الأخرى على فمها الصغير .. ويجري بين أصابها دمعٌ منكسر ذليل .. والدة بدر التي أعتادت على البكاء في مثل هذا الحال تمالكت نفسها فأن بكت سوف تضعف الهنوف وربما تسقط على الأرض .. أصبحت تقودها إليه .. وتأمرها بالسلام عليه .. والتحدث له والدعاء له .. بعد أن تمالكت الهنوف نفسها أخذت تدعي لبدر بجانب والدة بدر .. وبعد عشرة دقائق من الدعاء المستمر مع الدمع المتساقط بإهمال .. تقول الهنوف لوالدة بدر أنها تريد أن تختلي ببدر لدقائق فقط .. وترفض والدة بدر ذلك الطلب لعلمها أنها لن تحتمل الوقوف وحدها .. وبعد أصرار الهنوف على ذلك وافقت والدة بدر وخرجت ونظراتها لا تفارق الهنوف .. بعد أن أغلق الباب عليهم أخذت الهنوف يد بدر الموصولة بالمغذي .. وراحت تشمها وتقبلها  وتمسح دمعها فيها .. أخذت تقول له : بدر يقولون بأنك تستطيع سماعي .. أنا الهنوف يا حبيبي .. زوجتك .. التي تحبك .. حمداً لله على سلامتك من هذا الحادث البشع .. أنا غاضبةٌ منك .. صحيحٌ أنك في حالةٍ لا تسمح لي بالغضب عليك .. ولكني غاضبة ولا أعلم ماذا أفعل .. أنت أخبرتني بأن هناك مطعماً جديداً .. وتريد مني الخروج معك لتجربتهِ .. والآن أنت .. ( يجرح البكاء عينها فتسقط قطراتٌ من الدم على خدها الأبيض ) .. أنا أعلم بأنك لا تحب أن تسمع بكائي أو ترى دموع عيني .. ولكن أقسم لك يا بدر أنني ما أوقفتُ بكائي ألا لسبب .. وهو أنني لن أستطيع سماع صوتك .. أما الآن فما بيدي حيلة .. نعم أنا ضعيفة .. والدموع متنفسي الوحيد .. لذلك سألجأ لهُ حتى تفيق .. أحبك يا بدر ولن أتوقف عن حبك لو توقفت كل أعضائك عن العمل .. غداً سوف تعود معنا إلى الدمام .. هناك سوف أشرف أنا على العناية بك .. أنا لا أثق بكل تلك الممرضات ولا بكل طاقم الأطباء .. فهم لن يقوموا بالأهتمام بك كما سوف أفعل أنا .. تقاطع حديثها دخول الممرضة المشرفة على حالة بدر لتأخذ ضغط بدر و تقيس حرارة كما تفعل كل ساعتين .. يجتاح الحجرة هدوء مخيف .. فقط جهاز تخطيط القلب من يستطيع الكلام في ذلك الوقت .. نغمة مخيفة لدرجة الهلع .. ووجود كل تلك الألات بجانب بدر والمحيطة به والمتصلة به .. ترعب أعين الهنوف .. تدع الهنوف والد بدر والدكتور المراقب مساحة في الحجرة .. تخرج من الحجرة بينما قلبها لا يزال قابعاً في داخل تلك الأغطية البيضاء .. تذهب الهنوف ووالدة بدر إلي المسجد النساء لصلاة المغرب والعشاء .. وبعد ذلك يتناوب الجميع على الدخول إلى الحجرة كل نصف ساعة حتى وقفت عقارب الساعة عند العاشرة مساءً .. عندها عادوا إلى الدمام كي لا يتأخر الوقت .. كما أنهم يجب أن يستيقظوا مبكراً لنقل بدر إلى الدمام وذلك لن يتم ألا بعد توقيع بعض الأوراق وبعض المعاملات المعقدة ، يصل بدر ويحتفل الكل بقربهِ منهم .. تمتلئ المستشفى بجميع الأقارب والأصدقاء ففي قسم النساء تجد والدة بدر والهنوف ووالدتها وحنين وقريبة الهنوف وبعض النساء القريبين من ببدر .. أما في قسم الرجال فهناك والد بدر وأبناهُ ناصر وأحمد وأصدقائهُ المصابين زياد وعمر ووالد الهنوف ووالد عمر وزياد وماجد أيضاً الذي قطع أول تذكرة من دبي وعاد وبعض أصدقائهِ من العمل .. يتوافدون كل يومٍ إلى حجرة بدر هكذا حتى أصبح العدد يقل شيئاً فشيئاً .. المداومين على القدوم لبدر يومياً والدة بدر والهنوف ووالد بدر الذي يوصلهم إلى المستشفى ..  ضّل بدر طريح الفراش لقرابة الشهر .. تخلل في تلك الأشهر زيارة بعض المشايخ وقراء القرآن ليتلوا على بدر بعضاً من الآيات وليمسحوا على صدرهِ ويغسلوهُ بماء زمزم الطاهر ويدعوا له .. في تلك الأيام حدثت أمور سريعة كقبول الهنوف في جامعة الدمام وممارسة حياتها كأحدى الطالبات .. وعودة ماجد إلى دبي لأكمال دراستهِ .. وطرد بدر من عملهِ لظروف صحتهِ التي لا ترغب الشركة بالتورط فيها .. واتصال بدور على زياد بعد سماع ما حدث معهم ورجوعها بين أحضانهِ خائفة من فقدها إياه كما حدث مع بدر والهنوف . وفي أحد الأيام  تدخل الهنوف كعادتها إلى حجرة بدر تلقي السلام عليه وتعتذر لتأخرها لوجود أحدى المحاضرات الطويلة التي كانت عالقةً فيها .. تصافح يد بدر وتقبلها وتُمَرّغُها بخدها الحنون .. وتقترب منهُ لتحفر على جبنيهِ قبلة أمل .. في أحد الأدراج توجد بقاياء أشياء بدر من الحادث .. كمحفضتهِ و هاتفهِ المهشم وبعض الأوراق والمفاتيح .. تتأكد الهنوف من وجود كل شيء وعدم سرقة الممرضات أي شيء .. تخرج محفضتهُ وتتفقدها .. تفتحها وتنظر إلى الفوضى العارمة فيها .. تشرع في ترتيبها لتشغل نفسها في أي شيء يخص بدر .. ترمي بعض الإيصالات البنكية .. وتضع بعض الأوراق التي لا فتهمتها .. رخصة بدر للقيادة التي أصبحت غير مفيدة .. وبطاقةِ الشخصية .. وبطاقة عملهِ المفصول منه .. ترتبها جميعاً وتضعهم بجانبٍ واحد .. تفتح أحد الأوراق العتيقة صفراء اللون والتي يتضح عليها القِدَمّ والتّأكل وتشققات تعاركت عليها أطرافها .. تقرأ فيها ” كُنتُ أتمنى أن أراكَ لمدةٍ أطول ولكن لم أستطع ..” وعلى أحد الزوايا السفلية توقيعاً بأسم – الهنوف – .. تبتسم شفتاه الهنوف ثم تضحك قليلاً .. تتذكر فيها طيشها في الماضي وجنون حبها بهِ .. نزل على الهنوف في ذلك الوقت من الحنين ما لم ينزل عليها طِوَال عُمرِها .. أخذت تمسك يد بدر وتقبلها بجنون وضعف .. يد بدر أصبحت هزيلة ونحيلةً أكثر مما مضى بل جسد بدر بأكملهِ .. فلا غذاء يملئه ولا نعيم يسكنه .. بينما كانت الهنوف تقبل يد بدر تحركت سبابة بدر مما جعل الهنوف تتوقف لتتأكد لأنها مّلت من تخيل ذلك ومّلت من تكدس هذه الحركة في أحلامها .. تنتظر لوهلة تترقب فيها يد بدر وإذا بيدهِ كُلها تتحرك .. تصرخ مسرعةً على بدر بأنها الهنوف أن عليهِ أن يُفيق من نومهِ الطويل .. يسمع الأطباء صُراخها ظانين من تلك الصرخات حدوث مصيبةٍ أخرى .. يدخل عليها الطبيب المسؤل على حالة بدر بعد أن غطت وجهها .. ويتأكد من أستجابة عقل بدر وسلامة جميع الأعظاء والوظائف .. تخرج الهنوف من الغرفة وتتصل بسرعة على والدة بدر لتعجل في القدوم ، يحاول بدر التحدث ولكن الدكتور يقطع جميع محاولاتهِ بأنه يجب أن لا يُتعب جسدهُ الذي لم يعمل منذ أسابيع .. يطلب بدر القليل من الماء فيرفض الدكتور أعطائهُ لعدم أستعداد جهازهِ الهضمي على أستقبال الطعام والشراب .. يسأل الدكتور بدر أسئلة بسيطة لأختبار ذاكرتهِ .. ويجيب بدر بكل تعاون بتحريك رأسهِ فقط .. يستفسر بدر سريعاً عن سبب الظلام الذي يحيط بالمكان .. عندها يبدأ الدكتور شرح حالتهِ وعن الأضرار التي أصيب بها وعن الأحتمالات التي من الممكن أن تعيد البصر لهُ .. وعن المخاطر التي مر بها جسدياً ونفسياً .. وعن حالات أخرى أتت لمستشفى أتعس حظاً منه .. وأنه كان محظوظاً لسلامة باقي أجزاء جسمه .. وعن مدة جلوسهِ في المستشفى .. وأن هناك حالات أخرى أتت إلى المستشفى قَبلهُ بسنوات ولم تنتهي الغيبوبةُ منهم ..  يتقبل بدر الخبر بكل إيمان فهو يقول في نفسهِ بأن الله كتب لي عُمراً جديداً ولولا الله لربما كنت تحت الأرض الآن أو لم أفق من غيبوبتي بعد .. يسأل بدر عن والدهِ وعن والدتهِ فيجيب الدكتور أنهم في الطريق وأن هناك فتاة كانت هنا قبل قليل وخرجت ويسألهُ أن كان يريد أستدعائها .. الهنوف تلك خطيبتي .. يا الله كم أنا مشتاق لها .. يا ترى كيف أستقبلت هذا الخبر .. لا بد أنها أنهارت .. يعيد الدكتور عليه سؤالهُ : أتريد أن أناديها لك .. يحرك بدر رأسهُ مشيراً بالقبول .. قبل أن يخرج الدكتور يقول لبدر : سوف أعرج عليك ولكن بعد أن تجلس مع أهلك وأصحابك فهناك أشياء يجب أن تعلم بها .. يخرج الدكتورو تدخل الهنوف ..

الهنوف : بدر .. هل تسمعني ..؟

بدر بصوتٍ مبحوح : نعم ..

تركض الهنوف إلى أحضان بدر وتضمهُ بكايهً عليه : الحمد والشكر لك يارب .. لقد ظننت بأنني سأفتقدك إلى الأبد .. لقد كنت أحلم بهذا اليوم كثيراً .. وها هو الآن يتحقق .. كم أشتقت إلى الحديث معك وإلى سماع صوتك .. الآن أنا أشعر بالأمان .. كيف حالك الآن . ما الذي تشعر بهِ .. هل هناك شيء يؤلمك ؟

بدر يغلق عينه و يمسح على رأسها  : لا .. توقفي عن البكاء ..

الهنوف :  دعني أبكي أرجوك فأنا لا أعلم أأبكي من الفرح أم من الحزن ..

بدر : لماذا الحزن أنا بصحة وعافية .. هذا ما قاله الدكتور قبل قليل ..

الهنوف :  الحمد الله ..

وبين ذلك الفرح الأعمى يدخل والد بدر ووالدتهُ وجميع أخوتهِ .. الكل مبتسمٌ الكل في عينهِ دموعاً يشتم بدر رائحتها قبل أن تسقط .. ينتشر الخبر بسرعة كبيرة وتفرح الحجرة بالأهل والأصدقاء .. الكل كان فرحاً ولكن بدر كان خجلاً .. كان يطلب من بعضهم بالتعريف عن أسمهِ فربما أختلطت الأصوات عليه .. كان مغمضاً عينيه طوال الوقت لا يريد أن يشعر بالنقص بينهم ولا يريد أن يشعر بأنه محط للأنظار الغريبة ، أصبحت حاسة الشم والسمع أقوى لدى بدر .. فبمجرد أن يدخل أحدٌ إلى حجرتهِ يستطيع أن يتعرف عليه من رائحتهِ .. تدخل الهنوف عليه في الصباح اليوم التالي جالبةً معها الفطور : السلام عليكم يا جميل ..

بدر : وعليكم السلام ..

الهنوف : صباح الخير يا حبيبي ..

بدر : صباح النور يا حبيبتي .. ما هذه الرائحة ؟

الهنوف : جلبت لك فطوراً من صنع يدي ..

بدر : لا حاجة أذن للأستغراب من هذه الرائحة الجميلة ..

الهنوف : توقف عن المدح قبل أن تتذوق بنفسك .. أتعلم ! أنا من سوف أطعمك بيدي الجميلة ..

بدر يمسك يد الهنوف ويقبلها : صدقتي فهي فعلاً جميلة ..

الهنوف : حسناً أخبرني .. هل أشتقت لي ..!

بدر : أنا ما أشتقتُ لأشيءٍ  بقدر ما أشتقت لسماع صوتكِ العذب ..

الهنوف : أنا أيضاً أشتقت لسماع صوتك خصوصاً عندما تغني ..

بدر يضحك : سأعتبر ذاك مديحاً ..

الهنوف : لن تغلبني هذه المرة فصوتك شجي ..

بدر : سأتوقف عن المحاولة مادمتِ أنتِ من سيطعمني ..

الهنوف تضحك : حسناً ما رأيك أن تتوقف عن الكلام وتبدأ بالفتح فمك كي أطعمك .. أتعلم يا بدر لقد وجدت تلك الورقة الصغيرة جداً في محفضتك .. عندما رأيتها جلستُ أضحك على نفسي كثيراً .. لم أكن أتخيل أنك لازلت تحتفظ بهذه الورقة الصغيرة ..

بدر : هي أغلى ذكرى .. بالحديث عنها .. هل من الممكن أن تناولينني إياها .. فلقد أشتقت إلى شمها وإلى الشعور بملمسها ..

تفتح الهنوف محفضة بدر وتخرج الورقة تقرأها من جديد وتضحك .. تضع الورقة في راحة يد بدر الممدودة لها ..

بدر بعد أن أشتمها ومرر أصابع يده بين زواياها : آه من أيام جميلة .. لازلت أذكر حديثكِ يومها والرعب الذي سكن حروفكِ ..

الهنوف : أنت من جعل أضلعي ترتجف دون أي داعي لذلك ..

بدر : لماذ توقفتي عن أطعامي .. أنا جائع ولم أذق مثل هذا الطعام اللذيذ منذ مدة ..

الهنوف : هل أعجبك ؟

بدر : بالتأكيد .. وأضن أنني سأتمرد وأخذ من حصتك قليلاً ..

الهنوف : أنت تعلم بأن الدكتور حذرك من الأكل الكثير حتى يستعيد جسمك صحته ..

بدر : دعكِ من حديث الدكتور .. ولو أنه ذاق ما ذقتهُ لطلب المزيد مثلي ..

الهنوف تضحك .. ينتهي بدر من فطورهِ وتغسل الهنوف فم ويدين بدر بمنديلٍ رطب .

يجلس بدر في المستشفى قرابة الشهر يتنافس على خدمتهِ الجميع .. بدأ بدر في تناول الطعام والشراب ويعود إلى طبيعتهَ .. واجه بدر ما لم يتخيلهُ من المصاعب التي وقفت أمام عينهِ العاطلة .. لم يكن يتخيل في ويومٍ من الأيام أنه سيحتاج إلى مساعدة كالوقوف على القدمين أو مساعدتهُ في التنزه بين الممرات أو حتى في دخولهِ إلى دورة المياه أو  الأستحمام .. كان والدهُ الوحيد الذي يدخل معهُ إلى دورة المياة .. وبعد أن خرج بدر من المستشفى أنتقل إلى بيتهِ ولم يدم أنتقاله أكثر من يومين .. ولصعوبة الحياة في بيتهِ طلب أن يعيش في دار رعاية للمكفوفين .. كان ذاك الخبر كالصاعقة التي نزلت على والدهِ ووالدتهِ .. أصّر بدر على ذلك مُبرراً أنه سيعيش لفترة بسيطة سيتعلم فيها كيف يعتمد على نفسهِ وبعد ذلك سيعود إلى المنزل .. وبعد الموافقة أنتقل بدر إلى هناك وتعلم الأعتماد على نفسهِ .. وكيفية التعامل مع المبصرين و المكفوفين مثلهُ .. عاد بدر إلى بيتهِ ممسكاً بأحدى العصِّي التي تساعدهُ على المشي والتعرف على مخاطر الطريق .. عاد بدر إلى الحياة من جديد سعيداً بذلك الأنجاز .. فهو اليوم لا يحتاج إلى أي مساعدة من أحد .. سيشرب كأس الماء متى أراد ذلك .. وسيدخل ويخرج من دورة المياة دون أن يزعج أحد .. وسيتناول طعامه دون أي عطفٍ أو شفقةٍ من أحد .. في تلك الفترة كان بدر يحاول الأبتعاد عن الهنوف عبر الهاتف قدر الأمكان متعذراً بأنه يسمع رنين الهاتف ولا يجده .. وبعد أن أستعاد بدر طاقتهُ الجسدية والنفسية .. ذهب إلى بيت الهنوف .. جلس بجوارها وتحدث معها لساعاتٍ والقلق واضحٌ بين شفتيه ..

قال بدر للهنوف بنبرةٍ جادة : أسمعي يا الهنوف .. لم يكن لدي وقتٌ كافي لتحدث معك .. أما الآن فأنا متفرغ ومستعد لكل أوامرك ..

الهنوف : عن ماذا تتحدث يا بدر ؟

بدر : أرجوكِ لا تقاطعيني ودعيني أكمل .. أنا أحمد الله على نجاتي من ذلك الحادث المميت وأشكر ربي صبح مساء .. صحيح أنني أصبحتُ كفيف العينين .. لكني رأيتُ ما لم يراهُ المبصرون .. عانيت الكثير في بداية الأمر .. وأصطنعت الضحك كثيراً .. أما الآن فأنا راضي بما قسمهُ الله لي .. أعلمي أنني مستعٌد لتنفيذ جميع رغباتكِ مهما كانت .. وأنني متفهم جداً لأي طلبٍ تطلبينهُ .. لقد وضعني الله في مثل هذا الموقف لأختبار صبري ومدى تحملي .. وأنا صابرٌ بأذن الله .. ولكن لا يوجد أي داعيٍ  لمعاقبتكِ معي .. فأنتِ جميلة والكل يتمنى الحصول على زوجةٍ مثلك .. فأن أردتي الطلاق فأنا لن أحرمكِ من حقكِ في الحصول على زوجٍ يمتلك عيوناً .. ولن أقبل منكِ أجابةٌ الآن .. سأترككِ تأخذين حصتكِ من الوقت .. وأريد منكِ أن تتخيلي مستقبلكِ معي وكيف ستكون المشقة علماً بأنني لا أملك عملاً ولا أظن بأنني سوف أجد عملاً بالسرعةٍ وسهولة .. لا تعتقدي أنني أريد التخلص منكِ .. أقسم لكِ بأنني أقول هذا الكلام وفي الحلق غصّة .. أعظم ما أشتاق إلى رؤيتهِ هو وجهك الجميل .. الحمد الله أنني رأيتكِ وحفظتُ صورتكِ في مخيلتي .. أعلم بأن هناك أملاً بأن يعود بصري وذلك يكلف الكثير من المال .. وأنا لا أريد العملية فهي سوف تسلب مني هذا الأمل في حال أنها لم تنجح .. على الأقل سوف أعيش على أملٍ في يومٍ من الأيام سأستطيع النظر مرةً  أخرى .. ولو خضعت للعملية والتي ستكلف الكثير جداً من المال والتي أيضاً لا نعلم مدى نجاحها سوف أخسر الأمل والمال وعودة النظر .. لذلك أفضل أن أمتلك الأمل والمال عوضاً عن ذهابهم مع العين .. سأكون متواجداً متى ترغبين بالحديث مرةً أخرى .. مع السلامة .

نهض بدر من امكانهِ وقادتهُ عصاتهُ إلى الخارج مستمعاً إلى دموع الهنوف التي تساقطت على ملابسها .. يعود بدر إلى بيتهِ ويتحدث مع والديهِ بشأن قرارهِ الذي أتخذه .. تغضب والدة بدر في البداية ولكن بعد الحديث والمناقشة الطويلة يقتنع والد برد فقط ووالدة بدر لا زالت متمسكةً بموقفها .. يخرج بدر من النطاق النقاش ويذهب إلى حجرتهِ .. يمسك والد بدر زوجتهُ ويخبرها بكل هدوء : حبيبتي أبننا كبير بما فيه الكفاية لأتخاذ قرارٍ بهذا الحجم .. ماذا لو ضغطنا عليه بما فيه الكفاية وأجبرناه على أجراء العملية ولم تنجح كيف سيتحمل هو هذا الخبر .. كيف ستتحملين أنتِ هذا الخبر .. كيف ستتحمل زوجتهُ وأصدقائهُ .. سيمر بدر وقتها بمرحلة أكتئاب قاسية لا أظن أن بستطاعتهِ تحملها خصوصاً بعد كل ذلك الذي مر بهِ مؤخراً ..  أنا لا أريد أن أكون سلبياً ولكن أريد منكِ أن تفهمي بدر وتعلمي لماذا هو أتخذ هذا القرار .. وأريد منكِ أن تعلمي أنني لن أقف ضدهُ بل سأكون معهُ في كل ما يفعلهُ .. وأن غير رأيهُ في المستقبل وأراد أن يخضع إلى العمليه صدقيني سأكون على أتم الأستعداد وأفعل كل ما بستطاعتي من جهدٍ ووقتٍ ومال ، في الجانب الأخر كان بدر مستلقياً على سريرهِ يقلب الأمور ويسأل نفسهُ .. هل كنتُ متسرعاً؟ هل يجب على المحاولة ؟ هل ما فعلتهُ للهنوف صحيح؟ نعم هي تستحق رجلاً أفضل مني ! هل سوف تطلب الطلاق مني ؟ لن أتعجب من ذلك بالرغم من أنها تعشقني ولم تفارقني منذ أن حدث معي ما حدث ألا أنها تستحق بعض الفرح في حياتها وذلك ما ستجدهُ عند أحدٍ أخر وليس أنا .. ما يجب أن أركز عليهِ الآن هي الوظيفة .. صحيح أنني أملك شهادة هندسة وأنني كنت أملك الكثير جداً من الفرص ولكن كلها تبخرت بمجرد فقدان بصري .. في هذا البلد الأعاقة الجسدية هي شيء مخيف لا أحد يريد أن يتعامل معك .. وفوق ذلك كلهِ يصبح المعاق عالةً على أهلهِ .. لا أحد يفخر بمصاحبة معاق .. الجميع يخفي ذلك وكأنهُ أمرٌ مخزي .. حتى الأقارب والأحباب .. لذلك سأبحث عن أي عملٍ من الغد وسأعتمد على نفسي .. وأنجح في حياتي دون أي حاجةٍ إلى بصري .. سأعتمد على نفسي .. وسأملك مصروفاً لجيبي ،

هكذا بدأ بدر بالتخطيط لحياتهِ من جديد وكأنه ولد قبل أيامٍ  قليلة .. ينام في صدر بدر قصر من الحزن الهَرّم وخلف ذلك القصر واحةٌ خضراء وجميلة .. القصر هو مكان يخزن فيه بدر طاقتهُ السلبية وأمالهُ العرجة .. أما الواحة  كانت ” الهنوف ” .. الهنوف هو الشيء الوحيد الذي بإمكانهِ أن يُسعّد بدر ويعيد للبهجة حضورهُ على وجهِ .. تسكن الهنوف أعلى طموح بدر المهزوز .. ليس فقط طموحهُ بل أجمل أحلامهُ .. وأسعد ما يدخل الفرحة على قلبهِ .. الجلوس معها أو بجانبها والتقرب منها واستنشاق الهواء ذاتهُ الذي تستنشقهُ يحقق أحلاماً كان بدر يتمنى الحصول عليها .. الزواج منها كان ولا يزال أحد الأسباب التي ستجعل بدر سعيداً حتى وأن كان ضريراً .. للقدر نصيبٌ ضخم في تغير كل مسارات حياة بدر .. فقبل أن يتحدث مع ( الفتاة ) كان بدر رجلاً يملك بصراً لا يعرف الحب .. وبعد مجيء ( الفتاة ) أصبح بدر أحد العشاق .. أستولت الهنوف على جميع ما يحيط بدر من تفاصيل صغيرة .. بل أنها صنعت في حياتهِ تفاصيل أصبحت من الأمور المهمة في حياتهِ .. عندما رحلت الهنوف عنهُ .. عّرَف بدر معنى الحب .. تألم كثيراً وتقيأ الشوق مراتٍ عدة .. وضعت الهنوف بدر في مسارٍ لا عودة فيه .. أصبح يسيرُ وحيداً .. أعطتهُ بعض الأمل الذي أصبح يتقوى ويتغذى عليه كل لليلة قبل أن ينام يختفي عن الأنظار ويخرج حبهُ ليعيد قرائتهُ من جديد .. مارس بدر الكثير من أمور الحب التي سمع عنها .. تعامل مع الحنين بشكلٍ دائم .. وأتخذ السهر صديقاً حميماً .. فتح لشوقهِ أوسع الأبواب .. وسمح لخيالهِ الغادر بأن يطعنهُ أكثر من مرة .. ورغم ذلك لا يزال يراها حلماً جميلاً وطريقاً مزهراً و أغنيات راقصة وحفلات صاخبة وطفلةًَ تركض في العيد فرحة .. ربما كان لقدر بدر يد في كل تلك الأمور وربما كانت مجرد صدفة .. ربما كانت ( الفتاة  ) قدراً وربما صدفة ، ربما كانت معها في المدرسة صدفةً وربما كان مُقدراً لها ذلك ، ربما كانت قدراً أن ترى ( الفتاة ) الهنوف تدخل إلى دورة المياة لتمسح بعض العبارات التي كتبتها على يدها وربما كان صدفة ، ربما كان قدرهُ أن يصبحوا أصدقاء وربما كان صدفة ، ربما كانت صدفة أن تعشق الهنوف بدر وتلتقي بأحد الفتيات التي يتحدث معها ، ربما كان قدراً أن يقع بدر في حبها قبل أن يتحدث معها ويكتم ذلك في صدرهِ ، ربما كانت شجاعة من الهنوف الموافقة على التحدث مع بدر ولم يكن قدراً ، ربما كان قدر بدر أن يفارق ( الفتاة ) لتنقطع أخبار الهنوف عنه وربما كانت صدفة ، ربما كان دخول الهنوف في حياتهِ مرةً أخرى وبقوة مجرد أنتظار مل فتصرف من تلقاء نفسهِ ولم يكن قدراً ، ربما كان السبب في وقوعهم في الحب هو حديثهم الطويل بعد الفجر وليس القدر ، ربما كان رحيلها عنه قدراً وربما توخيٍ للحذر ، ربما كانت والدة بدر تخطط في طلب يد الهنوف لأبنها بدر قبل أن تدخل ( الفتاة ) في حياة بدر وأنها كانت مجدر مصادفة ولم يكن قدراً ، ربما كانت مصادفةً كل تلك القصص التي حدثت لبدر وأصدقائهِ من محاولات لقطع أحدى تذاكر قطار الحب وربما كانت غاليةً ولم يستطع الجميع تحمل تلك التكلفة ولم يكن قدراً، ربما كان حادث بدر مع أصحابهِ مقدراً ولم يكن أحد أخطاء زياد الكثيرة، ربما كان مُقدراً لبدر الجلوس في المقدمة ولم تكن صدفة ، ربما  كان خروج بدر من الغيبوبة قدراً ولم يكن أحد الأسباب الطبية ، ربما كان قدر بدر أن يعيش الحب ويحرم منه وربما كان صدفة ، ربما كل ما حدث كان مقدراً وعزز ذلك القليل جداً من المصادفات العجيبة ، وربما كل ما حدث كان صدفةً عززت لهُ بعض الأقدار الصغيرة ، ربما كل ما حدث لسبب معين وربما لا ، في الحقيقة بدر لا يهتم بكل ذلك! .. كل ما كان يخاف بدر حصولهُ هو الأبتعاد عن الهنوف .. لم يستلم بدر في اليوم الأول أتصالاً من الهنوف ولا حتى رسالة ولم يقم هو أيضاً بإرسال أي رسالةٍ لها .. مر يومان على تلك الحال وبدر في قلقٍ فضيع .. وفي اليوم الثالث ترسل الهنوف رسالةً إلى بدر بأسلوب جاف تخبرهُ فيها بأن عليهم الحديث وأن عليه القدوم إلى المنزلها بعد صلاة المغرب .. أستعد بدر لذلك وحاول قدر الأمكان أن يتحكم بمشاعرهِ وعدم أظهارها لها مهما كان جوابها .. يجلس بدر في المجلس منتظراً شم رائحتها أو سماع خطواتها الخجلة .. وبعد لحظات تدخل الهنوف بتلك الرائحة التي قفز لها قلب بدر .. يبتسم بدر ثم يخفي أبتسامتهُ سريعاً ..

الهنوف : السلام عليكم ..

بدر : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاتهُ ..

الهنوف : كيف حالك ؟

بدر : الحمد الله لا زلت أستطيع المشي على قدمي .. كيف حالكِ أنتِ ؟

الهنوف : لستُ  بخير أبداً ..

بدر يستغرب يجيب بسرعة : لماذا ؟ ماذا حصل ؟

الهنوف : ربما لا يهمك الأمر ولكن سأقول لك .. تخيل ذلك معي جيداً .. تخيل أنك كُنتَ مكاني وأنا من أصبت بالعماء .. هل سوف تتركني وترحل أم أنك ستقف معي في كل محنة وفي كل بهجة .. عندما أخبرتني بأن أتخيل مستقبلي مع زوجي ومعك أنت أقسم لك بشرفي أنني لم أستطع أن أتخيل زوجاً غيرك .. وعندما جرحتني وقلت بأنني سأكون أسعد مع أنسان أخر أنسان يمتلك عيوناً يُبصر بها .. لم أكن أتخيل أنك يائسٌ لهذه الدرجة .. سأسألك يا بدر سؤلاً .. هل تزوجتك أنا من أجل عيونك فقط!

بدر : لا ..

الهنوف تدمع : أذن أنا لا أهتم بالعلة التي فيك .. فأنا لا زلت أرغب بزواج منك حتى وأن كُنتَ طريح الفراش .. أن أرتبط بشخصٍ كان بالنسبةِ لي حلماً .. لا يقلل من قيمة أعضائهِ السليمة والمعطلة .. أنا عندما أحببتك شعرت بأن الكون لي .. شعرت بأنني أعيش الحياة التي يتحدثون عنها وفوق ذلك كانت حياتي أجمل بكثير عما كانوا يتحدثون عنه .. أنت أول رجل أحببتهُ وثق تماماً بأنك أخرهم .. عندما أتيت إلي منزلي تخبرني ذلك الكلام الجارح كنت أنا على أتم الأستعداد على العيش طوال العمر معك .. وأتيت أنت وبكل غباءٍ تريد أن تدفعني خارج حياتك وكأنني شخص ثقيلٌ عليك .. أريد منك أن تفهم يا حبيبي بأنك ( حياتي ) فأن عشت أنا بعيداً عنك فأنا كذبتُ على نفسي ولم أعش أبداً .. سأعيش معك وسأقنعك بأجراء العملية وسأتزوج منك مهما كانت النتيجة وسأنجب منك أطفالاً نربيهم سويةً و …

بدأت بكاء الهنوف يزداد حتى أصبحت الحروف ضيقة لا تستطيع الخروج من فمها الصغير .. قام بدر من مكانهِ وجلس بالقرب منها تفحص وجهها الجميل ومسح نبع الدموع الذي كان يتفجر .. وقال لها : توقفي عن البكاء يا حبيبتي ..

ما أن سمعت تلك الكلمات من فم بدر حتى أرتمت بين أحضانهِ تدفع كمياً كبيرةً من الحزن والقلق والخوف خارج عيونها .. كانت أول مرةٍ يضم فيها بدر الهنوف إلى صدرهِ وكانت تلك أحدى أمنياتهِ الجميلة .. مسح دموعها وقبل جبينها وأعادها إلى صدرهِ مرةً أخرى مال رأسها على كتفهِ وأسند بدر رأسهُ على رأسها ونزل من عينيه دموعاً حاول أخفائها عن حبيبتهِ .. من قال بأن الضرير لا يدمع !.

 

 

 

 

في النهاية أرغب بشكر كل من تابع الرواية وكل من توقف عن قرائتها ، أشكر كل من خصص لي وقتاً في يومهِ لقراءة حروفي .. وأتمنى أنني لم أطل عليكم و كنت محل ثقةٍ لكم ولم أضيع وقتكم الثمين .. أرجوا من الجميع أخباري بكل صراحة عن رأيهِ في الرواية مهما كانت نظرتهُ ومهما كان أنتقادهُ ..  فأنا أتقبل كل شيء .. في حال أنك ترغب بأخفاء هويتك أخبرني في أحدى هذه المواقع .

أستقبل أسألتكم عبر هذا الموقع http://ask.fm/malook90

وأرائكم عبر هذا الموقع  http://sayat.me/malook90